يُحكى أنَّ فتىً اسمه بندر يتيماً كان يُقيم عند خالِّهِ
وتحت رعايته ، وكان صادق لا يكذب ولا يعرف معنى الكذب ، وهو مجبول علي الفطرة من
الله تعالى بالصدق .
وكان لخالّه جمل يأخذها أحياناً للمرعى ويرعى
معها طيلة نهاره ، وسمع الناس بصدقه ونزاهته وعفّة نفسه ، فأراد بعضهم أن يختبره
ويمتحنه ، فتوجه لخالّه وأخبره انه يشكّ فيما يسمعه من صدق ابن أخيه بندر ، واقترح
عليه أن يمتحنه بشيء معيّن .
وافق الخالّ على ذلك وذهب الرجل يفكر للإيقاع ببندر
وكشفه إذا كان صدقه فطريّاً بديهياً أم مفتعلاً ومصطنعاً .
وفي ساعات الصباح وبينما كان بندر يرعى مع جمل خالّه
، رأى فتاة ترعى مع قطيعٍ لها ، ثم أخذت تقترب منه شيئاً فشيئاً حتى وصلت إليه ،
وحيّته وجلست تتحدث إليه ، وأغرته الفتاة وقالت له إنها تحبّه وانها تتمنّى الزواج
منه ، وستوافق إذا ما تقدّم ليخطبها من أبيها . وظلّت تتحدث معه حتى كاد النهار
ينقضي فقالت له إنها لم تأكل منذ الصباح ، وألَحَّت عليه أن يذبح لها الجمل
ويطعمها من لحمها وأقسمت عليه بحبها له ، فانصاع لدلالها وذبح الجمل وشوى منها
وأكل هو وتلك الفتاة ، وعندما حان وقت الغروب ودّعته الفتاة وساقَت أغنامها وعادت
إلى مضارب أهلها .
وكانت سكرة تلتها فَكْرة ، فجلس بندر يفكّر بعد
أن صحي مما كان فيه ، وإذا الجمل قد ذُبحت ، وكيف يعود لخالّه بدونها ، وماذا يقول
له عندما يسأله عنها .
فكّر بندر مليّاً وقام فغرز عصا كانت معه في
الأرض وبدأ يحكي لها ويبثّ لها همومه وكأنه يستشيرها في أمره وفي الورطة التي وقع
بها ، فقال : يا عصاتي لو سألني خالّي عن الجمل وقلت له إنّ الذئب قد أكلها ،
فماذا سيقول لي ؟
وردّ على نفسه وهو يمثّل دور العصا : قال سيقول
لي أرني ما تبقى منها لأن الذئب لن يستطيع أن يأكلها كلّها ولا يستطيع جَرّها
وسحبها . وإذا ذهبت معه ولم يجدها ، فسيعرف عندها أنني كذبت عليه ، ولا يصدقني
بعدها .
وتوجه إلى العصا مرّة أخرى وسألها قائلاً : وإذا
قلت لخالّي بأنّ اللصوص قد سرقوها ، فماذا سيقول لي ؟
قال : سيقول لك تعال نتبعهم ونقصّ أثرهم وأثر الجمل
حتى نصل إليهم ، وعندها لن يجد الأثر وسيعرف أنني كذبت عليه .
قال : وإذا قلت له لدغتها أفعى وقتلتها فماذا
سيقول ؟
قال : سيقول تعال لنرى جثّتها ونرى أثر الحية
التي لدغتها ، وإذا جاء ووجدها مذبوحة ومسلوخة وأثر النار والشواء بقربها فسيعرف
عندها أنني كذبت عليه .
وأسئلة أخرى كثيرة كانت تدور في مخيلة بندر
ولكنها جميعاً لم تقنعه ولم يجد جواباً شافياً لها .
وأخيراً قال : يا عصاتي لم يبقَ أمامي إلا أن
أخبر خالّي بالحقيقة وليحدث ما يحدث .
وعاد بندر كاسف البال يحمل في يده تلك العصا التي
كان يسوق بها الجمل وجلس حزيناً ، فسأله خالّه لماذا عاد ولم تعد الجمل معه ،
فأخبره بكلّ الحقيقة ولم يترك شيئاً إلا وأخبر خالّه به ، ثم سار معه وأراه المكان
الذي ذبح فيه الجمل وما تبقّى منها .
عرف الخالّ أن بندراً لا يكذب ، فرَبَتَ على كتفه
وهوَّنَ عليه وخفّف عنه ، وقال له : لا تيأس يا ابني ، سأشتري جمل أخر مكانها .
وعاد والد الفتاة إلى خالّ بندر ليسأله عن خبر بندر
، ومـاذا قـال لخالّه ، فأخبره أنه قصَّ عليه الحكاية كاملة ولم يكذب عليه في شيء
منها .
ولم ييأس ذلك الرجل بل قال للخالّ : دعني أجرّب
معه تجربة أخرى لأرى مدى صدقه ، واتفق مع الخالّ على تجربة أخرى جديدة .
وفي المساء بعث الخالّ بندراً لقوم الفتاة ليخبر
أباها بأن خالّه قادم لخطبة الفتاة التي ذبح لها الناقة بالأمس ، وذهب بندر فرحاً
، وعندما وصل وجد القوم قد هدموا خيامهم وحمّلوها على الإبل ، والإبل تُرغي
والعبيد في هرجٍ ومرج ، فتوجّه إلى والد الفتاة ، وأخبره أن خالّه ينوي زيارتهم
في هذه الليلة ، فقال له : قلْ له إننا رحلنا من هذه الديار ، وغادرنا إلى
مكانٍ آخر .
وعاد بندر ليخبر خالّه بما رأى وعندما وصل سأله خالّه
إن كان قد أخبر والد الفتاة عن خبر زيارته المرتقبة .
فقال : نعم أخبرته .
فقال : وماذا قال لك ؟
فقال له : إنه يقول لك إنهم يريدون الرحيل .
فقال له : وهل رحلوا ؟
قال : رأيتهم قد هدموا بيوتهم ، وحمّلوها على
جمالهم ، ولكن لا أدري إذا كانوا قد ارتحلوا أم لا .
فقال له : سنذهب إليهم في المساء على كلّ حال
ونرى إن كانوا قد ارتحلوا أم لا ، وذهبوا في المساء إليهم وعندما وصلوا وجـدوا
القـوم وقد بُنيت خيامهـم ، وإبلهم في أماكنها وليس لديهم أي شيء يدلّ على
الرحيل .
فعجب بندر لذلك ، ولم يعلم أنها خطة مدبرة لكشف
صدقه من كذبـه .
وطلب الخال يد تلك الفتاة من أبيها لابن أخيه بندر
، فوافق والد الفتاة على زواجها منه بعد أن تأكد له بأنه صادق بالفطرة ، وتزوج بندر
من تلك الفتاة التي أحبها وعاش بندراً لا يعرف الكذب في حياتـه .