كانت (حنة) زوجة عمران عابده من عباد بیت المقدس ، وهي أخت زوجة نبي الله زكريا - عليه السلام - ، ذهبت يوما تتعبد الله في بيت المقدس ، فرأت طائرا ومعه أولاده الصغار يمشون خلفه ، فاشتهت الولد ، وتمنت أن يرزقها الله ولداً صالحا تجعله خادما يخدم بيت المقدس ، فحملت حنه زوجة عمران ، وبدل من أن تضع ولداً يخدم في بيت المقدس وضعت بنتا رائعة الخير يشع النور من وجهها، فقالت :
عاشت مريم في كفالة نبي الله زکریا - عليه السلام - ، وكانت لا تخرج من المحراب إلا لحاجة شديدة ، وكان نبي الله زكريا إذا دخل عليها المحراب ليتفقد أحوالها وجد عندها طعاما غريبا و خيرا كثيرا ، إنه يرى عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فكان يتعجب ويقول : يا مريم أنى لك هذا ؟ أي من أين لك هذا ؟ فكانت ترد عليه وتقول : هو من عند الله رازق الناس ، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب .
فتعلم زکریا منها درسا رائعا ، فدعا ربه أن يرزقه ولدا طيبا طاهرا، رغم أنه شيخ كبير ، وزوجته عاقر لا تلد.
كانت مریم مخلصة لله في عبادتها، واشتهرت في بني إسرائيل بأنها (البتول الطاهرة) وكانوا يحبونها ، وذات يوم نادت الملائكة مريم ، فقالوا : يا مريم إن الله اصطفاك ، أي : اختارك خالصة لخدمة البيت ، وطهرك من الأخلاق الرذيلة ، طهرك من كل دنس وعيب يمنع المكث في المسجد ، واصطفاك على نساء العالمين بولادة عيسى وخطاب الملائكة لك ، يا مريم اقنتي لربك أي : أخلصي العبادة له والزمي الطاعة، واسجدي واركعي مع الراكعين ولا تصلي وحدك ، فسعدت مريم ببشرى الله تعالى لها، فزادت في الركوع والسجود ، والدعاء لله تعالى .
البشارة بعيسى - عليه السلام -
كانت مريم لا تخرج من محرابها إلا لحاجة شديدة ، وذات يوم بعث الله إليها جبريل - عليه السلام - أمين الوحي ، جاء إليها على صورة رجل تام الخلقة ، حسين الهيئة ، وجميل المنظر ، فلما رأته قد اخترق حجابها فزعت وخافت منه ، وقالت : إني أعوذ بالرحمن منك وألجأ إليه أن يقيني شرك ، ما كنت يا هذا رجلا تقنيا ، وكان ظهوره بهذه الصورة ابتلاء من الله لها ، واختبارا لعفتها ، فقال لها جبريل وهو يهدئ من روعها : إنما أنا رسول ربك الذي تستعيذين به ، جئت لأهب لك غلاما زكيا طاهرا ، فتعجبت مريم من ذلك كيف تلد غلاما وهي التي لم تتزوج بعد وقالت : كيف يكون لي غلام ولم يمسسني بشر في زواج شرعي ، ولم أك بغيا من البغايا ، فرد عليها الملك قائلا : كذلك قال ربك هو علي هين، وقد خلقناه على هذا الوضع لنجعله آية للناس أي : معجزة حيث يستدلون بخلقه على كمال القدرة وتمام العظمة لله تعالى ، وكان رحمة منا للخلق ، وكان أمرا مقضيا ومقدرا من الله ، اطمأنت مريم إلى كلامه فدنا منها ، ونفخ جبريل - عليه السلام - في جيب درعها ، أي : في فتحة قميصها من أعلى ، وصلت النفخة إلى بطنها فحملت بإذن الله وعادت مريم إلى محرابها، فرآها ابن عم لها يسمى (يوسف النجار) فلاحظ حملها .
فسألها : يا مريم هل ينبت زرع بغير ماء ؟ قالت : لا . قال : فهل يولد مولود من غير ذكر وأنثى ؟
قالت مريم : إن الله الذي خلق الماء للزرع، قادر على أن ينبت الزرع بغير ماء ، وقادر على خلق المولود من غير ذكر وأنثی ، کما خلق آدم وحواء من غير ذكر ولا أنثی، فصدقها يوسف وعلم أنها صادقة طاهرة.
واقترب موعد الولادة ، فخرجت مریم بعيدا عن المحراب ، وجلست تحت نخلة يابسة لا تثمر ، وأحاطت بها الملائكة .
وكانت النخلة موجودة ببيت لحم في فلسطين ، فولدت عيسى - عليه السلام - .
فلما رأته حزنت وقالت : يا ليتني مت قبل هذا الحادث وكنت نسيا منسيا خوفا من أن يظن بها السوء في دينها ، أو يقع أحد في البهتان بسببها، فجاءها الرد من تحتها إذ كانت على مكان مرتفع ، قيل : إن عيسى رد عليها ، وقيل : جبريل - عليه السلام - ناداها : ألا تحزني ولا تتألمي ، قد جعل ربك تحتك سريا ، أي : نهرا صغيرا يفيض بالماء بعد أن كان جافا ، تشربين منه ، وهزي إليك بجذع النخلة اليابسة تتساقط عليك طبا جنيا، أي بلحا طريا صالحا للأكل ، فكلي من الرطب ، واشربي من النهر ، وقري عينا، واهدئي بالا ، وأطماني نفسا ؛ فالله معك وحافظك من الناس ، فإما ترين من البشر أحدا فيه أمارة الاعتراض عليك فلا تكلميه ، وقولي إني نذرت للرحمن صوما وسكوتا عن الكلام فلن أكلم اليوم إنسيا ، بل سأكلم الملائكة وأناجي ربي ، أي : أنها صامت عن الكلام ، کما یصوم الإنسان عن الطعام والشراب ، ولما اطمأنت مریم بما رأت من الآيات وفرغت من نفاسها حملت وليدها الجديد، فدخلت على أهل بيتها ، فلما رأوا الولد معها حزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين ، فتعجبوا من مريم الطاهرة كيف تنجب غلاما كهذا.
وظنوا بها ظن السوء وسألوها عنه ، فلم تجب ولم تتكلم ، وأشارت إلى الوليد الصغير أن تكلم ، فتعجبوا قائلين : كيف نكلم من كان في المهد صبيا ؟ أي : كيف نكلم طفلا رضيعا لا ينطق ؟
اعتبروا هذا استهزاء بهم ، وجناية زيادة على جنایتها الأولى ، ولكن الوليد الصغير لم يكن كأمثاله نشأ من أب وأم ، بل خلقه الله آية عجيبة وخلقة غريبة، يؤمن بسببه أناس ، ويكفر آخرون ، فحمله وولادته معجزة تدل على أن الله - عز وجل - على كل شيء قدير ، أنطق الله عیسی - عليه السلام - وهو طفل رضيع ، وهذه معجزة من معجزات الله .
قال عيسى - عليه السلام - : إني عبد الله ولست ولد الله ولا جزءا منه ، بل أنا بشر آتاني الكتاب وهو الإنجيل وجعلني نبيا إليكم ، وجعلني مباركا أينما كنت وثابتا على دین الحق ، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ، وجعلني بارا بوالدتي فقط حيث لم يكن له أب ، ولم يجعلني جبارا عنيدا وشقيا مطرودا ، والسلام من الله علي يوم ولدت من غير أب ، ويوم أموت ، ويوم أبعث حيا ، فسكت اليهود بعد أن رأوا هذه المعجزة الكبيرة ، وكانوا قد قرأوا في التوراة عن قرب ظهور نبي عظيم يتكلم رضيعا ، ومع ذلك لم يؤمنوا بعيسى - عليه السلام - ، كما فعلوا مع أنبياء الله جميعا من قبل، فهذه هي عادتهم : التكذيب والكفر بالله تعالى .
وكبر عيسى قليلا ، فخافت عليه مريم من اليهود أن يقتلوه کما قتلوا زکریا و یحیی – عليهما السلام - فعاشت به أمه في بيت رجل صالح كثير الإحسان على المساكين ، حتی شب عیسی - عليه السلام - واشتد عوده ، وآتاه الله الحكمة ، وكان علماء يهود لا هم لهم إلا جمع المال ، وبلوغ المكانة عند الملوك . و فكذبوا بالآخرة ، وكذبوا بعيسى - عليه السلام - وحرفوا التوراة ، ووصفوا الله بصفات كاذبة ، فأخذ عيسی - عليه السلام - يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، ويبحث عن الناس ويذهب إليهم ؛ ليهديهم إلى طريق الحق بإذن الله ، وتحمل منهم الأذى ، وصبر على البلاء ، وأمده الله بالآيات والمعجزات ، فكان يحيي الموتى بإذن الله ، ويعيد البصر للأعمى بإذن الله ، ويشفي المريض بالبرص بإذن الله ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .
كل هذه الآيات والمعجزات ولم يؤمن اليهود بعیسی - عليه السلام - ، بل كذبوه واتهموه بالسحر ، وشاء الله أن يكثر عدد المؤمنين بعيسى - عليه السلام - .
قصة المائدة
كان عيسى - عليه السلام - ينتقل من قرية إلى أخرى ليدعو الناس إلى الله ومعه (الحواريون) وهم الذين آمنوا به وساعدوه في دعوته إلى الله ، ووقفوا معه ضد اليهود.
وكانوا يحزنون لحزنه ، ويفرحون لفرحه، ويتحملون معه الأذى والجوع والعطش ، وفي يوم من الأيام قالوا لعيسى - عليه السلام - ادع لنا ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ، فخاف عليهم عيسى - عليه السلام - من عدم تحملهم شكر هذه المعجزة ، فوضحوا لعيسى أنهم يريدون زيادة إيمانهم ، ويكون هذا اليوم عيدا لهم ولمن جاء بعدهم من المؤمنين يجتمعون فيه للعبادة والشكر ، فدعا عيسى - عليه السلام - ربه ، فنزلت المائدة من السماء استجابة لدعائه ، وكان عليها طعام كثير ولذيذ ، وقال لهم عیسی : هذه هي مائده من عند الله ، فكلوا واشربوا، واشكروا الله ، فأكلوا وشربوا حتى علم الناس بهذه المعجزة ، فآمن عدد كثير بعيسى - عليه السلام - ، وزاد إيمان الحواريين بعیسی وبقدرة الله - عز وجل - .
رفع عيسي إلى السماء
خاف اليهود على أنفسهم وأموالهم من عیسی ، کما خافوا من إيمان الناس به وبرسالته ، فقرروا قتله والتخلص منه كما هي عادتهم مع الأنبياء والرسل ؛ فقد قتلوا كثيرا من الأنبياء والرسل - عليهم السلام - ، فاتفقوا مع الملك على قتل عيسى ، ولما علم عیسی - عليه السلام - بهذه الخطة هرب منهم واختفى في دار من الدور ، فأخذ اليهود يبحثون عنه حتى وصلوا إلى مكانه ، وكان عيسى - عليه السلام -
في أحد المنازل ومعه جماعة من أصحابه من الحواريين، و وكانوا اثنی عشر رجلا ، وقيل : ثلاثة عشر ، وقيل : سبعة عشر، فحاصر اليهود البيت ، وعلم عیسی وتيقن أنهم سوف يدخلون عليه هذه الدار ، فقال لأصحابه من منكم يقبل أن يكون شبهي ويكون رفيقي وبجواري في الجنة ؟ فقام شاب صغير من الحواريين أصدقائه ، وقبل هذا الأمر ، ثم كرر عیسی - عليه السلام - هذا الكلام مرة ثانية وثالثة ، فقام هذا الشاب ، فألقى الله شب عیسی على هذا الشاب ، ثم فتحت طاقة من سقف البيت ، ونام عيسى - عليه السلام - وغلب عليه النوم ، ثم رفعه الله إلى السماء من هذه الفتحة ، فلما رفع الله عيسى - عليه السلام - إلى السماء خرج أصحابه ، فلما رأى اليهود هذا الشاب الذي ألقى الله شبه عيسی عليه ، ظنوا أن ذلك الشاب هو عیسی ، فأخذوه وقتلوه وصلبوه ، ووضعوا الشوك على رأسه ، وظنوا أنهم بذلك قتلوا عيسى وصلبوه و تخلصوا منه ، بل رفعه الله إليه .
نزول عيسى من السماء
رفع الله عیسی - عليه السلام - إلى السماء لينجيه من كيد اليهود ، وقد التقى به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وقابله في رحلة الإسراء والمعراج ، وصلى خلف النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو والأنبياء جميعا ، وسوف ينزل عیسی - عليه السلام - في آخر الزمان فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب ، ويقتل المسيح الدجال ، ويصلي خلف إمام من المسلمين ، ويتبع شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويكون في هذه الأمة حكما عدلا ثم يموت ويدفن في مقابر المسلمين .
فوائد القصة
(1) إن الله واحد، لم يلد ، ولم يولد، ولم يكن له كفوا و أحد.
(2) عیسی - عليه السلام - خلقه الله بكلمة كن فيكون وهو روح من الأرواح التي خلقها الله ، خلقه الله من غير أب ، کما خلق آدم من غير أب ولا أم.
(3) مريم البتول طاهرة عفيفة نشأت في بيت کریم ونسب شریف تحت عناية الله ورعايته .
(4) اليهود من صفاتهم قتل الأنبياء .
(5) عيسي لم يمت ، ولكنه رفع عند الله .
(6) سوف ينزل عيسى في آخر الزمان ، ليرد على اليهود وعلى النصارى .
استمتع بقصص الانبياء عليهم السلام كاملة :
استمتع بقصص الانبياء عليهم السلام كاملة :